فصل: سرية بني حدرد إلى الغابة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 سرية أخرى مع بشير بن سعد

روي من طريق الواقدي بإسناده‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بشير بن سعد في ثلاثين راكباً إلى بني مرة من أرض فدك فاستاق نعمهم، فقاتلوه وقتلوا عامة من معه، وصبر هو يومئذ صبراً عظيماً، وقاتل قتالاً شديداً‏.‏

ثم لجأ إلى فدك فبات بها عند رجل من اليهود، ثم كر راجعاً إلى المدينة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ثم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله ومعه جماعة من كبار الصحابة، فذكر منهم أسامة بن زيد، وأبا مسعود البدري، وكعب بن عجرة‏.‏

ثم ذكر مقتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك حليف بني مرة، وقوله حين علاه بالسيف‏:‏ لا إله إلا الله، وأن الصحابة لاموه على ذلك حتى سقط في يده وندم على ما فعل‏.‏

وقد ذكر هذه القصة يونس بن بكير عن ابن إسحاق، عن شيخ من بني سلمة، عن رجال من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة، فأصاب مرداس بن نهيك حليفاً لهم من الحرقة فقتله أسامة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة عن أبيه، عن جده أسامة بن زيد قال‏:‏ أدركته أنا ورجل من الأنصار - يعني مرداس بن نهيك - فلما شهرنا عليه السيف قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله فلم ننزع عنه حتى قتلناه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 253‏)‏

فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أسامة من لك بلا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله إنما قالها تعوذاً من القتل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله‏)‏‏)‏ فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها عليَّ حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذ ولم أقتله‏.‏

فقلت‏:‏ إني أعطي الله عهداً أن لا أقتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بعدي يا أسامة‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ بعدك‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هشيم بن بشير، أنبأنا حصين، عن أبي ظبيان، قال‏:‏ سمعت أسامة بن زيد يحدث قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة‏.‏

قال‏:‏ فصبحناهم، وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان حاميتهم‏.‏

قال‏:‏ فغشيته أنا ورجل من الأنصار، فلما تغشيناه قال‏:‏ لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري وقتلته‏.‏

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت يا رسول الله إنما كان متعوذاً من القتل‏.‏

قال‏:‏ فكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ‏.‏

وأخرجه البخاري ومسلم، من حديث هشيم به نحوه‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب بن مكيث الجهني قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث إلى بني الملوح بالكديد - وأمره أن يغير عليهم وكنت في سريته‏.‏

فمضينا حتى إذا كنا بالقديد، لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال‏:‏ إني إنما جئت لأسلم، فقال له غالب بن عبد الله‏:‏ إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك‏.‏

قال‏:‏ فأوثقه رباطاً وخلف عليه رويجلاً أسود كان معنا، وقال‏:‏ أمكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه‏.‏

ومضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشية بعد العصر، فبعثني أصحابي إليه، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه، وذلك قبل غروب الشمس، فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحاً على التل‏.‏

فقال لامرأته‏:‏ إني لأرى سواداً على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك‏؟‏ فنظرت فقالت‏:‏ والله ما أفقد منها شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فناوليني قوسي وسهمين من نبلي، فناولته فرماني بسهم في جنبي، أو قال في جبيني، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك، فقال لامرأته‏:‏ أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ريبة لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما علي الكلاب‏.‏

قال‏:‏ فأمهلنا حتى إذا راحت روايحهم، وحتى احتلبوا وعطنوا وسكنوا، وذهبت عتمة من الليل، شننا عليهم الغارة فقتلنا، واستقنا النعم، ووجهنا قافلين به، وخرج صريخ القوم إلى قومهم بقربنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 254‏)‏

قال‏:‏ وخرجنا سراعاً حتى نمر بالحارث بن مالك بن البرصاء وصاحبه، فانطلقنا به معنا وأتانا صريخ الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل ذلك مطراً ولا حالاً، وجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه‏.‏

فلقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه، ونحن نجديها أو نحدوها - شك النفيلي - فذهبنا سراعاً حتى أسندنا بها في المسلك، ثم حذرنا عنه حتى أعجزنا القوم بما في أيدينا‏.‏

وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق، في روايته عبد الله بن غالب، والصواب غالب بن عبد الله كما تقدم‏.‏

وذكر الواقدي هذه القصة بإسناد آخر وقال فيه‏:‏ وكان معه من الصحابة مائة وثلاثون رجلاً‏.‏

ثم ذكر البيهقي من طريق الواقدي سرية بشير بن سعد أيضاً إلى ناحية خيبر، فلقوا جمعاً من العرب وغنموا نعماً كثيراً، وكان بعثه في هذه السرية بإشارة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان معه من المسلمين ثلاثمائة رجل، ودليله حسيل بن نويرة، وهو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر‏.‏

قاله الواقدي‏.‏

 سرية بني حدرد إلى الغابة

قال يونس عن محمد بن إسحاق‏:‏ كان من حديث قصة أبي حدرد وغزوته إلى الغابة ما حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، عن أبي حدرد قال‏:‏ تزوجت امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم‏.‏

قال‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كم أصدقت ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ مائتي درهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏سبحان الله ‏!‏ والله لو كنتم تأخذونها من وادٍ ما زدتم، والله ما عندي ما أعينك به‏)‏‏)‏‏.‏

فلبثت أياماً، ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له‏:‏ رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جشم، حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيساً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذا اسم وشرف في جشم‏.‏

قال‏:‏ فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين معي من المسلمين فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم‏)‏‏)‏‏.‏

وقدم لنا شارفاً عجفاء، فحمل عليه أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفاً حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم، حتى استقلت وما كادت، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تبلغوا على هذه‏)‏‏)‏‏.‏

فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما‏:‏ إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في العسكر فكبرا وشدا معي، فوالله أنا كذلك ننتظر أن نرى غرة أو نرى شيئاً، وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 255‏)‏

وقد كان لهم راعٍ قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم وتخوفوا عليه، فقام صاحبهم رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه فجعله في عنقه فقال‏:‏ والله لأتيقنن أمر راعينا ولقد أصابه شر‏.‏

فقال نفر ممن معه‏:‏ والله لا تذهب نحن نكفيك‏.‏

فقال‏:‏ لا إلا أنا‏.‏

قالوا‏:‏ نحن معك‏.‏

فقال‏:‏ والله لا يتبعني منكم أحد‏.‏

وخرج حتى مر بي فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلم فوثبت إليه، فاحتززت رأسه ثم شددت ناحية العسكر وكبرت، وشد صاحباي وكبرا، فوالله ما كان إلا التجأ ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم، وما خف معهم من أموالهم‏.‏

واستقنا إبلاً عظيمة، وغنماً كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيراً في صداقي فجمعت إلي أهلي‏.‏

السرية التي قتل فيها محلم بن جثامة عامر بن الأضبط

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلى أضم في نفر من المسلمين، منهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس‏.‏

فخرجنا حتى إذا كنا ببطن أضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه‏.‏

فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه الخبر، فنزل فينا القرآن‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 94‏]‏‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد، عن يعقوب، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه فذكره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 256‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر، سمعت زياد بن ضميرة بن سعد الضمري يحدث، عن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن جده قالا - وكانا شهدا حنيناً - قالا‏:‏ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر‏.‏

فقام إلى ظل شجرة فقعد فيه، فقام إليه عيينة بن بدر، فطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي، وهو سيد عامر‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيراً، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عيينة بن بدر‏:‏ والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحزن مثل ما أذاق نسائي‏.‏

فقال رجل من بني ليث يقال له‏:‏ ابن مكيتل وهو قصير من الرجال، فقال‏:‏ يا رسول الله ما أجد لهذا القتيل شبهاً في غرة الإسلام، إلا كغنم وردت فشربت أولاها، فنفرت أخراها، استن اليوم وغير غداً‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيراً الآن، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة‏)‏‏)‏ فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية‏.‏

فقال قوم محلم بن جثامة‏:‏ إيتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ فجاء رجل طوال ضرب اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم لا تغفر لمحلم‏)‏‏)‏ قالها ثلاثاً، فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ زعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك‏.‏

وهكذا رواه أبو داود، من طريق حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق‏.‏

ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن زيد بن ضميرة، عن أبيه، عن عمه، فذكر بعضه‏.‏

والصواب كما رواه ابن إسحاق عن محمد بن جعفر، عن زياد بن سعد بن ضميرة، عن أبيه، وعن جده‏.‏

وهكذا رواه أبو داود من طريق ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعن عبد الرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر، عن زياد بن سعد بن ضميرة، عن أبيه وجده بنحوه، كما تقدم‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني سالم أبو النضر أنه قال‏:‏ لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم، وقال‏:‏

يا معشر قيس سألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلاً تتركونه ليصلح به بين الناس، فمنعتموه إياه، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغضب الله لغضبه ويلعنكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلعنكم الله بلعنته لكم، لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآتين بخمسين من بني تميم، كلهم يشهدون أن القتيل كافر ما صلى قط فلا يطلبن دمه‏.‏

فلما قال ذلك لهم أخذوا الدية‏.‏

وهذا منقطع معضل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 257‏)‏

وقد روى ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن الحسن البصري‏:‏ أن محلماً لما جلس بين يديه عليه الصلاة والسلام قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏أمنته ثم قتلته ‏؟‏‏)‏‏)‏ ثم دعا عليه‏.‏

قال الحسن‏:‏ فوالله ما مكث محلم إلا سبعاً حتى مات فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، فرضموا عليه من الحجارة حتى واروه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الأرض لتطابق على من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم لما أراكم منه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ ثنا وكيع، ثنا جرير، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام - وكانت بينهم هنة في الجاهلية - فرماه محلم بسهم فقتله‏.‏

فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع‏:‏ يا رسول الله سن اليوم وغير غداً‏.‏

فقال عيينة‏:‏ لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي، فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا غفر الله لك‏)‏‏)‏ فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات، فدفنوه فلفظته الأرض‏.‏

فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الأرض لتقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم من حرمتكم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم طرحوه في جبل فألقوا عليه من الحجارة، ونزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا‏.‏‏.‏‏}‏ الآية

وقد ذكره موسى بن عقبة، عن الزهري، ورواه شعيب، عن الزهري، عن عبد الله بن وهب، عن قبيصة بن ذؤيب نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم محلم بن جثامة، ولا عامر بن الأضبط‏.‏

وكذلك رواه البيهقي، عن الحسن البصري بنحو هذه القصة وقال‏:‏ فيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ وقد تكلمنا في سبب نزول هذه الآية ومعناها في التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة‏.‏

 سرية عبد الله بن حذافة السهمي

ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار على سرية بعثهم، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 258‏)‏

قال‏:‏ فأغضبوه في شيء فقال‏:‏ اجمعوا لي حطباً فجمعوا‏.‏

فقال‏:‏ أوقدوا ناراً فأوقدوا، ثم قال‏:‏ ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فادخلوها‏.‏

قال‏:‏ فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا‏:‏ إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار‏.‏

قال‏:‏ فسكن غضبه وطفئت النار، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه القصة ثابتة أيضاً في الصحيحين من طريق يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏

وقد تكلمنا على هذه بما فيه كفاية في التفسير، ولله الحمد والمنة‏.‏

 بسم الله الرحمن الرحيم عمرة القضاء

ويقال‏:‏ القِصاص‏.‏ ورجحه السهيلي‏.‏ ويقال‏:‏ عمرة القضية‏.‏

فالأولى قضاء عما كان أحصر عام الحديبية‏.‏

والثاني من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والحرمات قصاص‏}‏‏.‏

والثالث من المقاضاة التي كان قاضاهم عليها على أن يرجع عنهم عامه هذا، ثم يأتي في العام القابل، ولا يدخل مكة إلا في جلبان السلاح، وأن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيام‏.‏

وهذه العمرة هي المذكورة في قوله تعالى في سورة الفتح المباركة‏:‏ ‏{‏لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله أمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وقد تكلمنا عليها مستقصى في كتابنا التفسير بما فيه كفاية وهي الموعود بها في قوله عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب حين قال له‏:‏ ألم تكن تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإنك آتيه ومطوف به‏)‏‏)‏‏.‏

وهي المشار إليها في قول عبد الله بن رواحة، حين دخل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة يوم عمرة القضاء وهو يقول‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

أي‏:‏ هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت مثل فلق الصبح‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجباً وشعبان، وشهر رمضان وشوالاً يبعث فيما بين ذلك سراياه، ثم خرج من ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون، معتمراً عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 259‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الدئلي‏.‏

ويقال لها عمرة القصاص‏:‏ لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست، فاقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع، بلغنا عن ابن عباس أنه قال‏:‏ فأنزل الله تعالى في ذلك‏:‏ ‏{‏والحرمات قصاص‏}‏‏.‏

وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه في ‏(‏مغازيه‏)‏‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر أقام بالمدينة، وبعث سراياه حتى استهل ذي القعدة، فنادى في الناس أن تجهزوا للعمرة فتجهزوا، وخرجوا إلى مكة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك، وهي سنة سبع، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه، وتحدثت قريش بينها أن محمداً في عسرة وجهد وشدة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس قال‏:‏ صفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم استلم الركن، ثم خرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم، واستلم الركن اليماني مشى حتى استلم الركن الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها‏.‏

فكان ابن عباس يقول‏:‏ كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد - هو ابن زيد - عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏

قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون‏:‏ إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاث، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ ورواه أبو سلمة - يعني حماد بن سلمة - عن أيوب، عن سعيد، عن ابن عباس قال‏:‏ لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامهم الذي استأمن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارملوا ليرى المشركون قوتكم‏)‏‏)‏ والمشركون من قبل قعيقعان‏.‏

ورواه مسلم، عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد‏.‏

وأسند البيهقي من طريق حماد بن سلمة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمع ابن أبي أوفى يقول‏:‏ لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي بقية الكلام على هذا المقام‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏/260‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته يقول‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله

يا رب إني مؤمن بقيله * أعرف حق الله في قبوله

نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

قال ابن هشام‏:‏ نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الأبيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم - يعني يوم صفين - قاله السهيلي‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقروا بالتنزيل، وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل‏.‏

وفيما قاله ابن هشام نظر، فإن الحافظ البيهقي روى من غير وجه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال‏:‏ لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة بين يديه، وفي رواية وهو آخذ بغرزه وهو يقول‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله * قد نزل الرحمن في تنزيله

بأن خير القتل في سبيله * نحن قتلناكم على تأويله

وفي رواية بهذا الإسناد بعينه‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

يا رب إني مؤمن بقيله

وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام القضية مكة فطاف بالبيت على ناقته، واستلم الركن بمحجنه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ من غير علة، والمسلمون يشتدون حوله وعبد الله بن رواحة يقول‏:‏

بسم الذي لا دين إلا دينه * بسم الذي محمد رسوله

خلوا بني الكفار عن سبيله *

قال موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل من عام الحديبية معتمراً في ذي القعدة سنة سبع، وهو الشهر الذي صده المشركون عن المسجد الحرام، حتى إذا بلغ يأجج وضع الأداة كلها الحجف والمجان، والرماح، والنبل، ودخلوا بسلاح الراكب السيوف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 261‏)‏

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية، فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس، وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحارث، فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف‏)‏‏)‏ ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع‏.‏

فاستكف أهل مكة الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو يطوفون بالبيت، وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً بالسيف وهو يقول‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله * أنا الشهيد أنه رسوله

قد أنزل الرحمن في تنزيله * في صحف تتلى على رسوله

فاليوم نضربكم على تأويله * كما ضربناكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

قال‏:‏ وتغيب رجال من أشراف المشركين أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظاً وحنقاً، ونفاسة وحسداً‏.‏

وخرجوا إلى الخندمة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية‏.‏

فلما أتى الصبح من اليوم الرابع، أتاه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب بن عبد العزى‏:‏ نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث‏.‏

فقال سعد بن عبادة‏:‏ كذبت لا أم لك ليس بأرضك ولا بأرض آبائك والله لا يخرج‏.‏

ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلاً وحويطباً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قد نكصت فيكم امرأة، لا يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا‏.‏

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل ببطن سرف، وأقام المسلمون، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع ليحمل ميمونة، وأقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة‏.‏

وقد لقيت ميمونة ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين ومن صبيانهم، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف فبنى بها، ثم أدلج فسار حتى أتى المدينة، وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فماتت حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم ذكر قصة ابنة حمزة إلى أن قال‏:‏ وأنزل الله عز وجل في تلك العمرة‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص‏}‏ فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام الذي صد فيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 262‏)‏

وقد روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير نحواً من هذا السياق، ولهذا السياق شواهد كثيرة من أحاديث متعددة‏:‏

ففي صحيح البخاري من طريق فليح بن سليمان، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً إلا سيوفاً، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا‏.‏

فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج فخرج‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال‏:‏ لم تكن هذه عمرة قضاء، وإنما كانت شرطاً على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم فيه المشركون‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا النفيلي، ثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن ميمون‏:‏ سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أن ميمون بن مهران قال‏:‏ خرجت معتمراً عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة، وبعث معي رجال من قومي بهدي‏.‏

قال‏:‏ فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم‏.‏

قال‏:‏ فنحرت الهدي مكاني، ثم أحللت، ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته فقال‏:‏ أبدل الهدي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء‏.‏

تفرد به أبو داود من حديث أبي حاضر عثمان بن حاضر الحميري، عن ابن عباس فذكره‏.‏

وقال الحافط البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون قال‏:‏

كان أبي يسأل كثيراً أهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدل هديه الذي نحر حين صده المشركون عن البيت‏؟‏ ولا يجد في ذلك شيئاً، حتى سمعته يسأل أبا حاضر الحميري عن ذلك‏.‏

فقال له‏:‏ على الخبير سقطت، حججت عام ابن الزبير في الحصر الأول فأهديت هدياً فحالوا بيننا وبين البيت، فنحرت في الحرم ورجعت إلى اليمن، وقلت‏:‏ لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فلما كان العام المقبل حججت فلقيت ابن عباس فسألته عما نحرت عليَّ بدله أم لا ‏؟‏

قال‏:‏ نعم فأبدل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أبدلوا الهدي الذي نحروا عام صدهم المشركون، فأبدلوا ذلك في عمرة القضاء، فعزت الإبل عليهم فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقر‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال‏:‏ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب الأسلمي على هديه يسير بالهدي أمامه، يطلب الرعي في الشجر، معه أربعة فتيان من أسلم، وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ستين بدنة‏.‏

فحدثني محمد بن نعيم المجمر، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ كنت مع صاحب البدن أسوقها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 263‏)‏

قال الواقدي‏:‏ وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي والمسلمون معه يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران فيجد بها نفراً من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة‏؟‏

فقال‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غداً إن شاء الله، ورأوا سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد فخرجوا سراعاً حتى أتوا قريشاً فأخبروهم بالذي رأوا من السلاح والخيل، ففزعت قريش وقالوا‏:‏ والله ما أحدثنا حدثاً وإنا على كتابنا وهدنتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه ‏؟‏

ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحقوا‏.‏

فقالوا‏:‏ يا محمد ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لا أدخل عليهم السلاح‏)‏‏)‏‏.‏

فقال مكرز بن حفص‏:‏ هذا الذي تعرف به البر والوفاء، ثم رجع سريعاً بأصحابه إلى مكة، فلما أن جاء مكرز بن حفص بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قريش من مكة إلى رؤوس الجبال وخلوا مكة، وقالوا‏:‏ لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمهم الله، وهو على ناقته القصواء وهم محدقون به يلبون، وهم متوشحون السيوف‏.‏

فلما انتهى إلى ذي طوى وفق على ناقته القصواء والمسلمون حوله، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون على راحلته القصواء، وابن رواحة آخذ بزمامها وهو يرتجز بشعره ويقول‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله * إلى آخره

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال‏:‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة - يعني من ذي القعدة سنة سبع - فقال المشركون‏:‏ إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن الصباح، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن عبد الله بن عثمان، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران من عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول ما يتباعثون من العجف‏.‏

فقال أصحابه‏:‏ لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحومه وحسونا من مرقه أصبحنا غداً حين ندخل مكة على القوم وبنا جمامة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم‏)‏‏)‏ فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحشى كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر، فاضطبع بردائه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يرى القوم فيكم غميزة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 264‏)‏

فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش‏:‏ ما يرضون بالمشي، أما أنهم لينفرون نفر الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة‏.‏

قال أبو الطفيل‏:‏ وأخبرني ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

قال أبو داود‏:‏ ثنا أبو سلمة موسى، ثنا حماد - يعني ابن سلمة - أنبأنا أبو عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة ‏؟‏

فقال‏:‏ صدقوا وكذبوا، قلت‏:‏ ما صدقوا وما كذبوا ‏؟‏

قال‏:‏ صدقوا رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشاً زمن الحديبية قالت‏:‏ دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف‏.‏

فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏ارملوا بالبيت ثلاثاً‏)‏‏)‏ قال‏:‏ وليس بسنة‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث سعيد الجريري، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر ثلاثتهم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن ابن عباس به نحوه‏.‏

وكون الرمل في الطواف سنة مذهب الجمهور، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في عمرة القضاء وفي عمرة الجعرانة أيضاً، كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس فذكره‏.‏

وثبت في حديث جابر عند مسلم وغيره أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع في الطواف، ولهذا قال عمر بن الخطاب‏:‏ فيم الرملان وقد أطال الله الإسلام ‏؟‏

ومع هذا لا نترك شيئاً فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضع تقرير هذا كتاب ‏(‏الأحكام‏)‏‏.‏

وكان ابن عباس في المشهور عنه لا يرى ذلك سنة كما ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت، وبالصفا والمروة ليري المشركين قوته‏.‏ لفظ البخاري‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه في القضاء دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، فقال عكرمة بن أبي جهل‏:‏ لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول‏.‏

وقال صفوان بن أمية‏:‏ الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا‏.‏

وقال خالد بن أسيد‏:‏ الحمد لله الذي أمات أبي، ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت‏.‏

وأما سهيل بن عمرو ورجال معه لما سمعوا بذلك غطوا وجوههم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 265‏)‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ قد أكرم الله أكثرهم بالإسلام‏.‏

قلت‏:‏ كذا ذكره البيهقي من طريق الواقدي أن هذا كان في عمرة القضاء، والمشهور أن ذلك كان في عام الفتح، والله أعلم‏.‏

 قصة تزويجه عليه السلام بميمونة

فقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك وهو حرام، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ كانت جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل، فجعلت أم الفضل أمرها إلى زوجها العباس، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم‏.‏

وذكر السهيلي‏:‏ أنه لما انتهت إليها خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهي راكبة بعيراً، قالت‏:‏ الجمل وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وفيها نزلت الآية‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏‏.‏

وقد روى البخاري من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وروى الدارقطني من طريق أبي الأسود يتيم عروة، ومن طريق مطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال‏.‏

قال‏:‏ وتأولوا رواية ابن عباس الأولى أنه كان محرماً أي‏:‏ في شهر حرام كما قال الشاعر‏:‏

قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً * فدعا فلم أر مثله مخذولاً

أي‏:‏ في شهر حرام‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا التأويل نظر، لأن الرواية متظافرة عن ابن عباس بخلاف ذلك، ولا سيما قوله‏:‏ تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال، وقد كان في شهر ذي القعدة أيضاً وهو شهر حرام‏.‏

وقال محمد بن يحيى الذهلي‏:‏ ثنا عبد الرزاق قال‏:‏ قال لي الثوري‏:‏ لا يلتفت إلى قول أهل المدينة‏.‏

أخبرني عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 266‏)‏

قال أبو عبد الله‏:‏ قلت لعبد الرزاق‏:‏ روى سفيان الحديثين جميعاً عن عمرو بن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، وابن خثيم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، أما حديث ابن خثيم فحدثنا ها هنا - يعني باليمن - وأما حديث عمرو فحدثنا ثمَّ - يعني بمكة - وأخرجاه في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار به‏.‏

وفي صحيح البخاري من طريق الأوزاعي‏:‏ أنبأنا عطاء، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم‏.‏

فقال سعيد بن المسيب‏:‏ وهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل‏.‏

وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني بقية، عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم فذكر كلمته، إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فكان الحل والنكاح جميعاً، فشبه ذلك على ابن عباس‏.‏

وروى مسلم وأهل السنن‏:‏ من طرق عن يزيد بن الأصم العامري، عن خالته ميمونة بنت الحارث قالت‏:‏ تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلال بسرف‏.‏

لكن قال الترمذي‏:‏ روى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الأصم مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصفهاني الزاهد، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، ثنا مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال‏:‏

تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت الرسول بينهما‏.‏

وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً، عن قتيبة، عن حماد بن زيد به‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ حسن ولا نعلم أحداً أسنده عن حماد، عن مطر، ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلاً، ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلاً‏.‏

قلت‏:‏ وكانت وفاتها بسرف سنة ثلاث وستين، ويقال سنة ستين رضي الله عنها‏.‏

ذكر خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعد قضاء عمرته

قد تقدم ما ذكره موسى بن عقبة أن قريشاً بعثوا إليه حويطب بن عبد العزى بعد مضي أربعة أيام ليرحل عنهم كما وقع به الشرط، فعرض عليهم أن يعمل وليمة عرسه بميمونة عندهم، وإنما أراد تأليفهم بذلك فأبوا عليه، وقالوا‏:‏ بل اخرج عنا، فخرج‏.‏

وكذلك ذكره ابن إسحاق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 267‏)‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا‏:‏ هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله‏.‏

قالوا‏:‏ لا نقر بهذا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً، ولكن أنت محمد بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي بن أبي طالب‏:‏ ‏(‏‏(‏امح رسول الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحداً أراد أن يقيم بها‏.‏

فلما دخل ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا‏:‏ قل لصاحبك فليخرج عنا فقد مضى الأجل‏.‏

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي‏:‏ يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة‏:‏ دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر‏.‏

فقال علي‏:‏ أنا أخذتها وهي ابنة عمي‏.‏

وقال جعفر‏:‏ ابنة عمي وخالتها تحتي‏.‏

وقال زيد‏:‏ ابنة أخي‏.‏

فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الخالة بمنزلة الأم‏)‏‏)‏ وقال لعلي‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت مني وأنا منك‏)‏‏)‏ وقال لجعفر‏:‏ ‏(‏‏(‏أشبهت خلقي وخلقي‏)‏‏)‏ وقال لزيد‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت أخونا ومولانا‏)‏‏)‏‏.‏

قال علي‏:‏ ألا تتزوج ابنة حمزة ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها ابنة أخي من الرضاعة‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏

وقد روى الواقدي قصة ابنة حمزة فقال‏:‏ حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن عمارة ابنة حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين ‏؟‏

فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها فتكلم زيد بن حارثة وكان وصي حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال‏:‏ أنا أحق بها ابنة أخي‏.‏

فلما سمع بذلك جعفر قال‏:‏ الخالة والدة وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي أسماء بنت عميس‏.‏

وقال علي‏:‏ ألا أراكم تختصمون هي ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها سبب دوني، وأنا أحق بها منكم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا أحكم بينكم، أما أنت يا زيد فمولى الله ومولى رسول الله، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خَلْقي وخُلُقي، وأنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها‏)‏‏)‏ فقضى بها لجعفر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 268‏)‏

قال الواقدي‏:‏ فلما قضى بها لجعفر، قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا يا جعفر ‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحداً قام فحجل حوله‏.‏

فقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تزوجها‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ابنة أخي من الرضاعة‏)‏‏)‏ فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏هل جزيت سلمة‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ لأنه ذكر الواقدي وغيره أنه هو الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة، لأنه كان أكبر من أخيه عمر بن أبي سلمة، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي الحجة، وتولى المشركون تلك الحجة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وأنزل الله في هذه العمرة فيما حدثني أبو عبيدة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله أمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً‏}‏ يعني خيبر‏.‏

 فصل إرسال سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم‏.‏

ذكر البيهقي ها هنا سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم، ثم ساق بسنده عن الواقدي‏:‏ حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري قال‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضية رجع في ذي الحجة من سنة سبع‏.‏

فبعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارساً، فخرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم فجمعوا جمعاً كثيراً، وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون، فلما أن رأوهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم بالنبل، ولم يسمعوا قولهم وقالوا‏:‏ لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه‏.‏

فرموهم ساعة وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل جانب، فقاتل القوم قتالاً شديداً حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء بجراحات كثيرة، فتحامل حتى رجع إلى المدينة بمن بقي معه من أصحابه في أول يوم من شهر صفر سنة ثمان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 269‏)‏

فصل رد رسول الله عليه السلام ابنته زينب على زوجها أبي العاص‏.‏

قال الواقدي‏:‏ في الحجة من هذه السنة - يعني سنة سبع - رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، وقد قدمنا الكلام على ذلك، وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس ومعه مارية وسيرين وقد أسلمتا في الطريق، وغلام خصي‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منبره درجتين ومقعده، قال‏:‏ والثبت عندنا أنه عمل في سنة ثمان‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن بحولك وقوتك

 سنة ثمان من الهجرة النبوية

إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة

قد تقدم طرف من ذلك فيما ذكره ابن إسحاق بعد مقتل أبي رافع اليهودي، وذلك في سنة خمس من الهجرة، وإنما ذكره الحافظ البيهقي ها هنا بعد عمرة القضاء، فروى من طريق الواقدي‏:‏

أنبأنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال‏:‏ قال عمرو بن العاص‏:‏ كنت للإسلام مجانباً معانداً، حضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت‏.‏

قال‏:‏ فقلت في نفسي‏:‏ كم أُوِضع‏؟‏ والله ليظهرن محمداً على قريش ‏!‏ فلحقت بمالي بالرهط وأقللت من الناس - أي من لقائهم - فلما حضر الحديبية وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح، ورجعت قريش إلى مكة جعلت أقول‏:‏ يدخل محمد قابلاً مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، ولا شيء خير من الخروج، وأنا بعد نائي عن الإسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة وجمعت رجالاً من قومي وكانوا يرون رأيي ويسمعون مني، ويقدمونني فيما نابهم‏.‏

فقلت لهم‏:‏ كيف أنا فيكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ ذو رأينا ومدرهنا في يمن نفسه وبركة أمر‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ تعلمون أني والله لأرى أمر محمد أمراً يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت رأياً‏.‏

قالوا‏:‏ وما هو ‏؟‏

قلت‏:‏ نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي، نكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا‏.‏

قالوا‏:‏ هذا الرأي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 270‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ فاجمعوا ما نُهديه له - وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم - فحملنا أدماً كثيراً ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان‏.‏

فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي‏:‏ هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش، وكنت قد أجزأت عنها حتى قتلت رسول محمد‏.‏

فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال‏:‏ مرحباً بصديقي أهديت لي من بلادك شيئاً‏؟‏

قال‏:‏ قلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدماً كثيراً‏.‏

ثم قدمته فأعجبه، وفرق منه شيئاً بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت‏:‏ أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول عدو لنا، قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله‏.‏

فغضب من ذلك، ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقاً منه‏.‏

ثم قلت‏:‏ أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك‏.‏

قال‏:‏ فاستحيا وقال‏:‏ يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول رسول الله من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله‏؟‏

قال عمرو‏:‏ فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي‏:‏ عرف هذا الحق، والعرب، والعجم، وتخالف أنت‏؟‏

ثم قلت‏:‏ أتشهد أيها الملك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم، أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده‏.‏

قلت‏:‏ أتبايعني له على الإسلام‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم، وكساني ثياباً - وكانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها - ثم خرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك، وقالوا‏:‏ هل أدركت من صاحبك ما أردت‏؟‏

فقلت لهم‏:‏ كرهت أن أكلمه في أول مرة، وقلت أعود إليه‏.‏

فقالوا‏:‏ الرأي ما رأيت‏.‏

قال‏:‏ ففارقتهم وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع‏.‏

قال‏:‏ فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبة، وخرجت من السفينة ومعي نفقة، فابتعت بعيراً، وخرجت أريد المدينة، حتى مررت على مر الظهران‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 271‏)‏

ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير، يريدان منزلاً، وأحدهما داخل في الخيمة والآخر يمسك الراحلتين‏.‏

قال‏:‏ فنظرت فإذا خالد بن الوليد، قال‏:‏ قلت‏:‏ أين تريد‏؟‏

قال‏:‏ محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها‏.‏

قلت‏:‏ وأنا الله قد أردت محمداً، وأردت الإسلام‏.‏

فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعاً في المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة، فما أنس قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح‏:‏ يا رباح يا رباح يا رباح، فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول‏:‏ قد أعطت مكة المقادة بعد هذين، وظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد‏.‏

وولى مدبراً إلى المسجد سريعاً، فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت، وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودي بالعصر فانطلقنا على أظلعنا عليه، وإن لوجهه تهللاً والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا‏.‏

فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة، فبايع ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه‏.‏

قال‏:‏ فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها‏)‏‏)‏ قال فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب‏.‏

قال عبد الحميد بن جعفر شيخ الواقدي‏:‏ فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب، فقال‏:‏ أخبرني راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن مولاه حبيب، عن عمرو بن العاص نحو ذلك‏.‏

قلت‏:‏ كذلك رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد عن مولاه حبيب قال‏:‏ حدثني عمرو بن العاص من فيه، فذكر ما تقدم في سنة خمس بعد مقتل أبي رافع، وسياق الواقدي أبسط وأحسن‏.‏

قال الواقدي، عن شيخه عبد الحميد‏:‏ فقلت ليزيد بن أبي حبيب‏:‏ وقت لك متى قدم عمرو وخالد ‏؟‏

قال‏:‏ لا إلا أنه قال قبل الفتح‏.‏

قلت‏:‏ فإن أبي أخبرني أن عمراً وخالداً وعثمان بن طلحة قدموا لهلال صفر سنة ثمان، وسيأتي عند وفاة عمرو من صحيح مسلم ما يشهد لسياق إسلامه، وكيفية حسن صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته، وكيف مات وهو يتأسف على ما كان منه في مدة مباشرته الإمارة بعده عليه الصلاة والسلام، وصفة موته رضي الله عنه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 272‏)‏

 طريق إسلام خالد بن الوليد

قال الواقدي‏:‏ حدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد قال‏:‏ لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضرني رشدي، فقلت‏:‏ قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه وسلم، فليس في موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمداً سيظهر‏.‏

فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، خرجت في خيل من المشركين، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرة -

فاطلع على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعاً وقلت‏:‏ الرجل ممنوع فاعتز لنا، وعدل عن سير خيلنا، وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشاً بالحديبية ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي‏:‏ أي شيء بقي‏؟‏

أين أذهب إلى النجاشي فقد اتبع محمد وأصحابه عنده أمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية فأقيم في عجم، فأقيم في داري بمن بقي، فأنا في ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية فتغيبت ولم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتاباً فإذا فيه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد‏:‏ فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد‏؟‏ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك وقال‏:‏ أين خالد ‏؟‏

فقلت‏:‏ يأتي الله به‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مثله جهل الإسلام ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين كان خيراً له، ولقدمناه على غيره‏)‏‏)‏ فاستدرك يا أخي ما قد فاتك فقد فاتتك مواطن صالحة‏.‏

قال‏:‏ فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام، وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت في بلاد خضراء واسعة، فقلت‏:‏ إن هذه لرؤيا‏.‏

فلما أن قدمت المدينة قلت لأذكرن لأبي بكر‏.‏

فقال‏:‏ مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك‏.‏

قال‏:‏ فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت من أصاحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 273‏)‏

فلقيت صفوان بن أمية فقلت‏:‏ يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه، إنما نحن كأضراس وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد واتبعناه فإن شرف محمد لنا شرف، فأبى أشد الإباء فقال‏:‏ لو لم يبق غيري ما اتبعته أبداً، فافترقنا وقلت‏:‏ هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر‏.‏

فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية‏.‏

فقال لي مثل ما قال صفوان بن أمية‏.‏

قلت‏:‏ فاكتم علي‏.‏

قال‏:‏ لا أذكره‏.‏

فخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي، فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن طلحة فقلت‏:‏ إن هذا لي صديق فلو ذكرت له ما أرجو، ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره، ثم قلت‏:‏ وما علي وأنا راحل من ساعتي، فذكرت له ما صار الأمر إليه‏.‏

فقلت‏:‏ إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج، وقلت له نحواً مما قلت لصاحبي، فأسرع الإجابة وقال‏:‏ لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفج مناخة‏.‏

قال‏:‏ فاتعدت أنا وهو يأجج إن سبقني أقام، وإن سبقته أقمت عليه‏.‏

قال‏:‏ فأدلجنا سحراً فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة فنجد عمرو بن العاص بها‏.‏

قال‏:‏ مرحباً بالقوم‏.‏

فقلنا‏:‏ وبك‏.‏

فقال‏:‏ إلى أين مسيركم ‏؟‏

فقلنا‏:‏ وما أخرجك ‏؟‏

فقال‏:‏ وما أخرجكم ‏؟‏

قلنا‏:‏ الدخول في الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وذاك الذي أقدمني، فاصطحبنا جميعاً حتى دخلنا المدينة فأنخنا بظهر الحرة ركابنا، فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيني أخي فقال‏:‏

أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم، فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق‏.‏

فقلت‏:‏ إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تعال‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً للحق فادعو الله أن يغفرها لي‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الإسلام يجب ما كان قبله‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله على ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال خالد‏:‏ وتقدم عثمان وعمرو فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وكان قدومنا في صفر سنة ثمان‏.‏

قال‏:‏ والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 274‏)‏

 سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى هوازن

قال الواقدي‏:‏ حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم، فخرج وكان يسير الليل ويكمن النهار، حتى جاءهم وهم غارين، وقد أوعز إلى أصحابه أن لا تمعنوا في الطلب، فأصابوا نعماً كثيراً وشاء، فاستاقوا ذلك حتى إذا قدموا المدينة فكانت سهامهم خمسة عشر بعيراً كل رجل‏.‏

وزعم غيره أنهم أصابوا سبياً أيضاً، ثم قدم أهلوهم مسلمين، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أميرهم في ردهن إليهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

فردوهن وخير التي عنده الجارية فاختارت المقام عنده، وقد تكون هذه السرية هي المذكورة فيما رواه الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد، فكان فيهم عبد الله بن عمر قال‏:‏ فأصبنا إبلاً كثيراً فبلغت سهامنا اثنا عشر بعيراً، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً‏.‏

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، ورواه مسلم أيضاً من حديث الليث ومن حديث عبد الله كلهم عن نافع عن ابن عمر بنحوه‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا نعماً كثيراً، فنفلنا أميرنا بعيراً بعيراً لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صد فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيراً بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل منا ثلاثة عشر بعيراً بنفله‏.‏

 سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة

قال الواقدي‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله عن الزهري قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل‏.‏

فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فارتث منهم رجل جريح في القتلى، فلما أن برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم بالبعثة إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 275‏)‏

 غزوة مؤتة

وهي سرية زيد بن حارثة في نحو من ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء من أرض الشام‏.‏

قال محمد بن إسحاق بعد قصة عمرة القضية‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية ذي الحجة، وولى تلك الحجة المشركون والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة‏.‏

فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس‏)‏‏)‏

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمرو بن الحكم، عن أبيه قال‏:‏ جاء النعمان بن فنحص اليهودي فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال النعمان‏:‏ أبا القاسم إن كنت نبياً فلو سميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، وإن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا سموا الرجل على القوم فقالوا إن أصيب فلان ففلان، فلو سموا مائة أصيبوا جميعاً، ثم جعل يقول لزيد‏:‏ اعهد فإنك لا ترجع أبداً إن كان محمد نبياً‏.‏

فقال زيد‏:‏ أشهد أنه نبي صادق بار‏.‏

رواه البيهقي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم، فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع بكى، فقالوا‏:‏ ما يبكيك يا ابن رواحة ‏؟‏

فقال‏:‏ أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏‏.‏

فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود‏.‏

فقال المسلمون‏:‏ صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 276‏)‏

فقال عبد الله بن رواحة‏:‏

لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشداً

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن القوم تهيئوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه، ثم قال‏:‏

فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

إني تفرست فيك الخير نافلة * الله يعلم أني ثابت البصر

أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج القوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعهم حتى إذا ودعهم وانصرف، قال عبد الله بن رواحة‏:‏

خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا أبو خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مؤتة فاستعمل زيداً، فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة، فجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ما خلفك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أجمع معك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو معاوية، ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة‏.‏

قال‏:‏ فقدم أصحابه وقال‏:‏ أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ألحقهم‏.‏

قال‏:‏ فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما منعك أن تغدو مع أصحابك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت غدوتهم‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث قد رواه الترمذي من حديث أبي معاوية، عن الحجاج - وهو ابن أرطأة - ثم علله الترمذي بما حكاه عن شعبة أنه قال‏:‏ لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث وليس هذا منها‏.‏

قلت‏:‏ والحجاج بن أرطأة في روايته نظر، والله أعلم‏.‏

والمقصود من إيراد هذا الحديث أنه يقتضي أن خروج الأمراء إلى مؤتة كان في يوم جمعة، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 277‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم مضوا حتى نزلوا معاناً من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلي‏.‏

ثم أحد أراشة يقال له مالك بن رافلة‏.‏

وفي رواية يونس، عن ابن إسحاق‏:‏ فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا‏:‏ نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له‏.‏

قال‏:‏ فشجع الناس عبد الله بن رواحة‏.‏

وقال‏:‏ يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة‏.‏

قال‏:‏ فقال الناس‏:‏ قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك‏:‏

جلبنا الخيل من أجأ وفرع * تعر من الحشيش لها العكوم

حذوناها من الصوان سبتاً * أزل كأن صفحته أديم

أقامت ليلتين على معان * فأعقب بعد فترتها جموم

فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها سموم

فلا وأبي مآب لنأتينها * وإن كانت بها عرب وروم

فعبأنا أعنتها فجاءت * عوابس والغبار لها يريم

بذي لجب كأن البيض فيه * إذا برزت قوانسها النجوم

فراضية المعيشة طلقتها * أسنتنا فتنكح أو تئيم

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال‏:‏ كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه‏:‏

إذا أدنيتني وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك أنعم وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشتهي الشواء

وردك كل ذي نسب قريب * إلى الرحمن منقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 278‏)‏

قال‏:‏ فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة وقال‏:‏ ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل ‏؟‏

ثم قال عبد الله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز‏:‏

يا زيد زيد اليعملات الذبل * تطاول الليل هديت فانزل

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم، والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة‏.‏

فالتقى الناس عندها، فتعبى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال‏:‏ شهدت مؤتة، فلما دنا منا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أرقم‏:‏ يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ إنك لم تشهد بدراً معنا، إنا لم ننصر بالكثرة‏.‏

رواه البيهقي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل، فكان جعفر أول المسلمين عقر في الإسلام‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال‏:‏ والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول‏:‏

يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها

والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إن لاقيتها ضرابها*

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 279‏)‏

وهذا الحديث قد رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق ولم يذكر الشعر، وقد استدل من جواز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به العدو، كما يقول أبو حنيفة في الإغنام إذا لم تتبع في السير، ويخشى من لحوق العدو وانتفاعهم بها أنها تذبح وتحرق ليحال بينهم وبين ذلك، والله أعلم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ ولم ينكر أحد على جعفر، فدل على جوازه إلا إذا أمن أخذ العدو له، ولا يدخل ذلك في النهي عن قتل الحيوان عبثاً‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء‏.‏

ويقال‏:‏ إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه بنصفين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال‏:‏ حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف قال‏:‏ فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ويقول‏:‏

أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة * مالي أراك تكرهين الجنة

قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنة

وقال أيضاً‏:‏

يا نفس إن لا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت

يريد صاحبيه زيداً وجعفراً، ثم نزل‏.‏

فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال‏:‏ شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال‏:‏ وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال‏:‏ يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم‏.‏

قالوا‏:‏ أنت‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني -‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً‏)‏‏)‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 280‏)‏

قال‏:‏ ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد رفعوا إليَّ في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت عم هذا‏؟‏ فقيل لي‏:‏ مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا ذكر ابن إسحاق هذا منقطعاً‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ ثنا أحمد بن واقد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله قد فتح الله عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البخاري، ورواه في موضع آخر وقال فيه وهو على المنبر‏:‏ وما يسرهم أنهم عندنا‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أحمد بن أبي بكير، ثنا مغيرة بن عبد الرحمن المخزومي - وليس بالحرامي - عن عبد الله بن سعيد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة‏)‏‏)‏‏.‏

قال عبد الله‏:‏ كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين من ضربة ورمية، تفرد به البخاري أيضاً‏.‏

وقال البخاري أيضاً‏:‏ حدثنا أحمد، ثنا ابن وهب، عن ابن عمرو، عن ابن أبي هلال - وهو سعيد بن أبي هلال الليثي - قالا‏:‏ وأخبرني نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره‏.‏

وهذا أيضاً من إفراد البخاري‏.‏

ووجه الجمع بين هذه الرواية والتي قبلها‏:‏ أن ابن عمر اطلع على هذا العدد وغيره اطلع على أكثر من ذلك، وأن هذه في قبله أصيبها قبل أن يقتل، فلما صرع إلى الأرض ضربوه أيضاً ضربات في ظهره، فعدَّ ابن عمر ما كان في قبله وهو في وجوه الأعداء قبل أن يقتل رضي الله عنه‏.‏

ومما يشهد لما ذكره ابن هشام من قطع يمينه وهي ممسكة اللواء، ثم شماله ما رواه البخاري‏:‏ ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا عمر بن علي، عن إسماعيل بن أبي خلاد، عن عامر قال‏:‏ كان ابن عمر إذا حيى ابن جعفر قال‏:‏ السلام عليك يا ابن ذي الجناحين‏.‏

ورواه أيضاً في ‏(‏المناقب‏)‏، والنسائي من حديث يزيد بن هارون، عن إسماعيل بن أبي خالد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 281‏)‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان بن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ سمعت خالد بن الوليد يقول‏:‏ لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفحة يمانية‏.‏

ثم رواه عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن إسماعيل، حدثني قيس‏:‏ سمعت خالد بن الوليد يقول‏:‏ لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفحة يمانية‏.‏

انفرد به البخاري‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ ثنا أبو نصر ابن قتادة، ثنا أبو عمرو مطر، ثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا الأسود، ثنا شيبان، عن خالد بن سمير قال‏:‏ قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري، وكانت الأنصار تفقهه فغشيه فيمن غشيه فقال‏:‏ حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏عليكم زيد بن حارثة‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوثب جعفر وقال‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ ما كنت أرهب أن تستعمل زيداً علي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏امض فإنك لا تدري أي ذلك خير‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فأمر فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبركم عن جيشكم هذا، إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيداً‏)‏‏)‏ فاستغفر له‏.‏

‏(‏‏(‏ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيداً‏)‏‏)‏ - شهد له بالشهادة واستغفر له - ‏(‏‏(‏ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً‏)‏‏)‏ فاستغفر له‏.‏

‏(‏‏(‏ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنه سيف من سيوفك، أنت تنصره‏)‏‏)‏ فمن يومئذ سمي خالد سيف الله‏.‏

ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك، عن الأسود بن شيبان به نحوه، وفيه زيادة حسنة‏:‏ وهو أنه عليه الصلاة والسلام لما اجتمع إليه الناس قال‏:‏ ‏(‏‏(‏باب خير باب خير‏)‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال‏:‏ لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وكشف الله له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد بن حارثة فجاء الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا فقال‏:‏ الآن استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلى الدنيا، فمضى قدماً حتى استشهد‏)‏‏)‏‏.‏

فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏استغفروا له فقد دخل الجنة وهو شهيد‏)‏‏)‏‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما قتل زيد‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال‏:‏ الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين يمنيني الدنيا‏)‏‏)‏‏.‏

ثم مضى قُدُماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏استغفروا لأخيكم فإنه شهيد، دخل الجنة وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء في الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فاستشهد ثم دخل الجنة معترضاً‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 282‏)‏

فشق ذلك على الأنصار، فقيل‏:‏ يا رسول الله ما اعترضُهُ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فتشجع، واستشهد ودخل الجنة فسري عن قومه‏)‏‏)‏‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه قال‏:‏ لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الآن حمي الوطيس‏)‏‏)‏‏.‏

قال الواقدي‏:‏ فحدثني العطاف بن خالد قال‏:‏ لما قتل ابن رواحة مساءً، بات خالد بن الوليد فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، و ميسرته ميمنته‏.‏

قال‏:‏ فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا‏:‏ قد جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين‏.‏

قال‏:‏ فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم‏.‏

وهذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة رحمه الله في ‏(‏مغازيه‏)‏ فإنه قال‏:‏ بعد عمرة الحديبية ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمكث بها ستة أشهر، ثم إنه بعث جيشاً إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال‏:‏

‏(‏‏(‏إن أصيب فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلقوا حتى إذا لقوا ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة، وبها جموع من نصارى العرب والروم، بها تنوخ وبهراء، فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام، ثم التقوا على زرع أحمر، فاقتتلوا قتالاً شديداً‏.‏

فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر فقتل، ثم أخذه عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد المخزومي، فهزم الله العدو وأظهر المسلمين‏.‏

قال‏:‏ وبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى - يعني سنة ثمان -‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مر علي جعفر في الملائكة يطير كما يطيرون وله جناحان‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وزعموا - والله أعلم - أن يعلى بن أمية قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت فأخبرني، وإن شئت أخبرك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أخبرني يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفه لهم‏.‏

فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 283‏)‏

فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالد إنما حاش بالقوم حتى تخلصوا من الروم وعرب النصارى فقط‏.‏

وموسى بن عقبة، والواقدي، مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم والعرب الذين معهم، وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعاً‏.‏

ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه‏.‏

ورواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه، ومال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين، لما ذكر من الحديث‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق، وبين قول الباقين، وهو أن خالد لما أخذ الراية حاش بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدي الكافرين من الروم والمستعربة‏.‏

فلما أصبح وحوَّل الجيش ميمنة وميسرة، ومقدمة وساقة، كما ذكره الواقدي، توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزموهم بإذن الله، والله أعلم‏.‏

وقد قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر، عن عروة قال‏:‏ لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه‏.‏

قال‏:‏ ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر،‏)‏‏)‏ فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه، فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون‏:‏ يا فرار فررتم في سبيل الله‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا مرسل من هذا الوجه، وفيه غرابة‏.‏

وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الجيش، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين وهو على المنبر في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه‏)‏‏)‏‏.‏

فما كان المسلمون ليمسونهم فراراً بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكراماً وإعظاماً، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هنالك، وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، ثنا زهير، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا‏:‏ كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب‏؟‏

ثم قلنا‏:‏ لو دخلنا المدينة قتلنا، ثم قلنا‏:‏ لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا‏.‏

فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من القوم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلنا نحن فرارون‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا بل أنتم الكرارون، أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأتيناه حتى قبلنا يده‏.‏

ثم رواه غندر، عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عمر قال‏:‏ كنا في سرية ففررنا فأردنا أن نركب البحر، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا‏:‏ يا رسول الله نحن الفرارون، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا بل أنتم العكارون‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 284‏)‏

و رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث يزيد بن أبي زياد‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن لا نعرفه إلا من حديثه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن عيسى، وأسود بن عامر، قالا‏:‏ حدثنا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عمر قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فلما لقينا العدو انهزمنا في أول غادية، فقدمنا المدينة في نفر ليلاً، فاختفينا ثم قلنا‏:‏ لو خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرنا إليه‏.‏

فخرجنا إليه ثم لقيناه، قلنا‏:‏ نحن الفرارون يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال الأسود‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا فئة كل مسلم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة‏:‏ مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين‏؟‏

قالت‏:‏ ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس‏:‏ يا فرار فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته ما يخرج، وكان في غزاة مؤتة‏.‏

قلت‏:‏ لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع الروم - و كانوا على أكثر من أضعاف الأضعاف فإنهم كانوا ثلاثة آلاف، وكان العدو على ما ذكروه مائتي ألف، ومثل هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر‏.‏

فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم وفتح الله عليهم، وتخلصوا من أيدي أولئك، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، كما ذكره الواقدي، وموسى بن عقبة من قبله‏.‏

ويؤيد ذلك ويشاكله بالصحة ما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال‏:‏

خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة من المسلمين في غزوة مؤتة، ووافقني مددي من اليمن، ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً، فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرقة، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقبه، فخر وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه‏.‏

فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد يأخذ من السلب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 285‏)‏

قال عوف‏:‏ فأتيته فقلت‏:‏ يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ‏؟‏

قال‏:‏ بلى، ولكني استكثرته فقلت‏؟‏

فقلت‏:‏ لتردنه إليه أو لأعرفتكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه‏.‏

قال عوف‏:‏ فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا خالد رد عليه ما أخذت منه‏)‏‏)‏‏.‏

قال عوف‏:‏ فقلت‏:‏ دونك يا خالد ألم أف لك ‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وما ذاك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأخبرته فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركوا أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدرة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال الوليد‏:‏ سألت ثوراً عن هذا الحديث فحدثني عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عوف بنحوه‏.‏

ورواه مسلم، وأبو داود من حديث جبير بن نفير، عن عوف بن مالك به نحوه، وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم، وقتلوا من أمرائهم‏.‏

وقد تقدم فيما رواه البخاري‏:‏ أن خالداً رضي الله عنه قال‏:‏ اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفحة يمانية، وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلاً ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم، وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم‏.‏

وهذا هو اختيار موسى بن عقبة، والواقدي، والبيهقي وحكاه ابن هشام عن الزهري‏.‏

قال البيهقي رحمه الله‏:‏ اختلف أهل المغازي في فرارهم وانحيازهم، فمنهم من ذهب إلى ذلك، ومنهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين، وأن المشركين انهزموا‏.‏

قال‏:‏ وحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم أخذها خالد ففتح الله عليه‏)‏‏)‏ يدل على ظهورهم عليهم، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر ابن إسحاق‏:‏ أن قطبة بن قتادة العذري - وكان رأس ميمنة المسلمين - حمل على مالك بن زافلة، ويقال‏:‏ رافلة وهو أمير أعراب النصارى فقتله، وقال‏:‏ يفتخر بذلك‏:‏

طعنت ابن رافلة بن الأراش * برمح مضى فيه ثم انحطم

ضربت على جيده ضربة * فمال كما مال غصن السلم

وسقنا نساء بني عمة * غداة رقوقين سوق النعم

وهذا يؤيد ما نحن فيه لأن من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه، ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم، وهذا واضح فيما ذكرناه، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 286‏)‏

وأما ابن إسحاق‏:‏ فإنه ذهب إلى أنه لم يكن إلا المخاشاة والتخلص من أيدي الروم، وسمى هذا نصراً وفتحاً أي باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو بهم، وتراكمهم وتكاثرهم وتكاثفهم عليهم، فكان مقتضى العادات أن يصطلحوا بالكلية، فلما تخلصوا منهم وانحازوا عنهم كان هذا غاية المرام في هذا المقام‏.‏

وهذا محتمل لكنه خلاف الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏‏(‏ففتح الله عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

والمقصود أن ابن إسحاق يستدل على ما ذهب إليه فقال‏:‏ وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد بن الوليد ومخاشاته بالناس، وانصرافه بهم قيس بن المحسر اليعمري يعتذر مما صنع يومئذ، وصنع الناس يقول‏:‏

فوالله لا تنفك نفسي تلومني * على موقفي والخيل قابعة قبل

وقفت بها لا مستجيزاً فنافذاً * ولا مانعاً من كل حم له القتل

على أنني آسيت نفسي بخالد * إلا خالد في القوم ليس له مثل

وجاشت إلي النفس من نحو جعفر * بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل

وضم إلينا حجزتيهم كليهما * مهاجرة لا مشركون ولا عذل

قال ابن إسحاق‏:‏ فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره أن القوم جاحزوا وكرهوا الموت، وحقق انحياز خالد بمن معه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وأما الزهري فقال - فيما بلغنا عنه -‏:‏ أمر المسلمون عليهم خالد بن الوليد، ففتح الله عليهم، وكان عليهم حتى رجع إلى المدينة‏.‏